هل يجهل قادة أوروبّا اليوم سرّ الطوفان الإفريقي، الذي يغزو أراضيهم، أم أنهم يدرون، ولكنهم يتظاهرون أنهم يجهلون؟

يكفي أن يتأمّلوا تجربتهم الاستعمارية في حقّ الصحراء الكبرى، لكي يكتشفوا أن ورطتهم اليوم، هي صنيع خطيئتهم بالأمس، في حقّ أهل هذه القارّة الحكيمة، التي لعبت دور عرّاب التكوين، في يابسةٍ هي مسقط رأس هذا التكوين، وإلّا لما تغنّى العلماء بأفضالها، عندما نصّبوها مهبطاً للخليقة، من دون كل بقاع المسكونة، مترجماً في حرف «إفريقيا»، المستعارة من مفردة «آفرا»، في لسان أُمّة اللثام، الدالّة على: العراء، الخلاء، الصحراء، لأن الفسحة الطبيعية الفجيعة، في واقعها، ظاهرة تُخيف حقّاً، ومن المنطقي أن تصلح علامةً جغرافيّةً فارقة، لتكون إسماً للقارّة بأسرها، كما يملي ناموس الطبيعة، الذي قضى بأن تعتنق الأمكنة، في اليابسة، صفة العلامة المميّزة في الظاهرة. وقراءة معجم الطبيعة هو الدرس، الذي لم يكن الغرب ليستوعبه، أو يقبل بأن يتعاطاه كعلم علوم، لأن غروره بما حقّقه في حقل التقنية التجريبية يعميه عن رؤية الحقيقة في واقع الأشياء، فلا يكتشف إلّا بعد فوات الأوان، أن التجديف في حقّ طبيعة الأشياء، يقود إلى التجديف في حقّ طبيعة الأخلاق، ليسفّه بذلك حكمة الإمام الذي روّض له هذا المارد، المدعو عقلاً، وهو «إيمانويل كانط»، الذي حرّض الأجيال على الإحتفاء بمعجزتين في هذا الوجود: هما النجوم في قلب السماء، والأخلاق في قلب الإنسان، دون أن ينسى أن يحذّر من إغواء الإقبال على هذا العالم، بروح من يهفو لاغتنام سعادة، بدل التّوق لأداء قدس أقداسٍ هو: الواجب!

هذا الواجب هو الذي كفر به الإنسان الأوروبي عندما سمح لنفسه بأن يمارس العدوان في حقّ الأغيار، طلباً لاغتنام غنائم، ظنّاً منه أن الغنيمة، المغسولة بنزيف الدم يمكن أن تحقق له النزيف الخالد: السعادة، متجاهلاً وصيّة معلّمه الحكيم، الذي اشترط مسبقاً كَم السعادة عنقاء مغرب، عندما ننظم حملات الغزو لانتزاعها غصباً، بدل أن نحتال عليها، بأن نباغتها من موقع آخر، قد يبدو منيعاً حقّاً، ولكنه الموقع الوحيد، الذي يصلح شرَكاً لاقتناص طريدتنا النفيسة (السعادة)، وهو: أداء الواجب!

ولكن إنسان الغرب، المغترّ كثيراً بمؤهّلاته التقنية، الكفيلة بتحقيق تفوّقه في حقل الآلهة الحربيّة، فضّل الذهاب إلى السعادة رأساً، ومن أقصر الطرق، وهو الاستعانة بالعنف، لامتلاك العالم، تحقيقاً لترفٍ، يمكن أن يجود بسعادة، لتكون الضحية، هي الخصم الغيبي القديم، سليل هابيل، الذي اختار أن يهاجر في فضاء الصحراء طليقاً، على أن يحيا في حبوس العمران أسيراً. حكّمت أوروبّا الاستعمارية منطق القوّة، بدل منطق نبيّ العقل «كانط»، وتدفّقت بجيوشها لغزو واحة النبوّة الخالدة (الصحراء)، في حملة اغتنام دامية، استغرقت عقوداً، بل لم يكن لها أن تهنأ بما انتهبت طوال وجودها الهمجيّ في هذه القارّة، المسكونة بالشعر، كما السحر، كما الجمال، كما الشجن، الذي لم تكن العقلية الاستعمارية لتعترف بسلطانه يوماً، بعد أن تنكّرت لتراثها الكلاسيكي، الهوميري ( نسبة إلى هوميروس)، وكفرت بتعاليم سليل هذه الصحراء نفسها، القديس أوغسطين، إبن «تامنغست» الرائدة، الذي بعث نبيّاً من منفاه هو السيد المسيح، ليؤسس الديانة المسيحية في عمله المرجعي الموسوعي «ملكوت الرب»، ليرجع له الفضل  في إدانة العقلية الإستعمارية، مجسّدةً في العقلية الحضرية، عندما استنزل لقب «الإنسان الدنيوي»، في حقّ هذا الإنسان العمراني الشره والشرس معاً، في مقابل لقب «الإنسان الإلهيّ»، في حقّ قرينه الصحراوي، لنملك الحقّ في أن نعلن أن حملات الغرب ضد الصحراء الكبرى هي، في الواقع، إعلان حربٍ على تعاليم المسيح، في شخص القديس أوغسطين، الذي كان له الفضل في بعث هذه الديانة من عدم، ويدين بالولاء للصحراء الكبرى، التي أنجبته، لكي يكون للعالمين مبشّراً ونذيراً ومبعوثاً من واقع هذا التراب النقيّ، الصحراء الكبرى، الذي كان له مسقط رأس، وها هي فرنسا وإيطاليا، تتحالفان لقتل أخلافه الأبرياء، طلباً لكنوز الباطل، التي أخفتها الطبيعة عنّا عمداً، لأنها كانت حكيمة بما يكفي لكي تمنعنا من الحصول على السكين، التي سننحر بها أنفسنا، كما الحال مع «اليورانيوم» المميت، الذي لم تتردّد فرنسا في أن تستخدمه لإنتاج القنابل النووية، التي فجّرتها في صحرائنا البتول، في خمسينيات وستينيات القرن الفاني، لتفني أهلها الأبرياء، فلا تكتفي، ولأنها تأبَى إلّا أن تضيف في سجلّها جرائم أخرى، علّ أخبثها هو قيامها باختلاس وطنهم كلّه، وتقديمه على طبق من ذهب لخدمها من قبائل «بامبارا» الهمجيّة، التي تتباهى بإنكار وجود الله، في إسمها، كما تدل عليه ترجمته في لغتها، مكافأةً لها على ولائها، وعلى الخدمات التي قامت بها لأسيادها الفرنسيس، طوال مرحلة تنكيلها بأهلها الأصليين، الذين لم يتوقّفوا عن مقاومتها ببسالة أناسٍ لم يتوهّموا يوماً بأنّهم قادرون على إنزال هزيمة بالآلة الحربية الغازية، ولكنهم يدرون أنهم شهداء مسبقاً؛ ولذا كانوا أحرص الناس على اقتناء أكفانهم في سروجهم، إيماناً منهم، كان متوارثاً جيلاً عن جيل، بأن الموت ليست شرّاً، مادامت تستطيع أن تكون ترياقاً لورمٍ خبيث هو أن يحيا الإنسان عبداً!

والبليّة، التي كانت سبباً في إبادة القوم، هو وجودهم في حصارٍ مدهش، نستطيع أن نصفه بـ الوجودي، بل والغيبي، الناتج عن وصيّة أزليّة، موروثة عن ناموس الأمّة الخالد «آنهي»، تقضي بتحريم عبور المياه، تحريماً استعار بالزمن سلطان اليقين الديني، لتتحوّل أعظم صحاري العالم، جزيرةً مقدّسة، ضرباً من سجن، الخروج من حدوده ممارسة لإثمٍ لا يُغتفر؛ لأن الماء، في مفهوم الناموس، هو «إيمان»، التي تعني في قاموسهم: الروح. والخوض في الماء، لغاية اجتياز الغمر دَنسٌ صريح، وهو ما يستنزل هوية قدسيّة في الشطآن الأربعة، التي تطوّق الصحراء الكبرى: الأقيانوس، أو المحيط الأطلسي غرباً، وبحر ليبيا شمالاً، ونهر «كَوكَو» (وهو الاسم الحقيقي لنهر النيجر)، جنوباً، ونهر النيل شرقاً. فالهجرة عبر هذا الفضاء الشاسع، المثيل لجهات الدنيا الأربع، طقسٌ مقدّس، لا يختلف عن ممارسة شعائر الصلاة، ولكنه مشروطٌ ضمنيّاً، بتعاليم صارمة، تحوّلت، بالتجربة، طبيعةً ثانية، تسري في روح كل سليل صحراء، وهي عدم المساس بحرمة الحدود، والدليل يطالعنا به واقع الصحراء اليوم، حيث نجد أهل هذه الصحراء يهلكون جوعاً أو عطشاً، أو أوبئةً، أو حروباً، ولكن الغرب، الواقع وراء حصون المياه، في الشمال، لم يستقبل منهم طلّاب لجوءٍ يوماً، في وقتٍ يتدفّق فيه طوفان الأمم الافريقية، الواقعة خلف سياج الصحراء، على القارة العجوز، حتّى أضحت مهدّدةً بالغرق، بفعل هذا الطوفان، الذي يعبر صحراء أمّة اللثام بأمان، إلى شطآن الغرب، دون أن يحقق الأمان لهؤلاء الدراويش الصحراويين، الذين يستضيفونهم في وطنهم التاريخي، بمراسم الإكبار، في حين يقوم هؤلاء الأشقياء بتحريض أبناء جلدتهم ضدّهم، في زمنٍ لم يعد فيه البياض في البشرة، هو مَن يمارس التمييز في حقّ السواد، ولكن انقلبت فيه الآية، كما انقلبت في الواقع الإنساني الحداثي آياتٍ كثيرة، ليغدو الرجل الأسود هو مَنْ يمارس الاضطهاد في حقّ العنصر الأبيض! وها هو الغرب الأبيض يجني اليوم ما زرعت أياديه في القارّة بالأمس، فيعاني وقاحة الأمّة السوداء، التي كانت له، زمن هيمنته، خادماً، لتكون له ساعداً أيمن حتى في اقتراف آثامه في حقّ أمّة اللثام الأبيّة، فلم يتردد في أن ينصر قبائل الأدغال، على جيرانهم أمازيغ الصحراء، فيستقطع أراضيهم حصصاً، ليقوم بتوزيعها على عبيد الأمس، دون وجود أي مؤهّل يمكن أن يبرّر هذه القسمة العبثية الجائرة، فلا يهنأ بالاً، لأن الكفر الكامن في باطن هذه القسمة، هو ما تحوّل، في واقع الانسان الأوروبي، قيامة في المراحل التالية، عندما توهّم هذا الكيان الأسود المدلّل بأنه حقاً هو صاحب حق، بل ومهضوم حقوق، فهاجر وراء سيّد الأمس، ليستردّ منه قيمة الفاتورة، ظنّاً منه أنه مدينٌ بها له دوماً، فلا يكفي أن يحيا على حسابه في أوروبا كتعويض، ولا تشفع له فيها حتى تنازلات سيّد الأمس عن مخدع عقيلته، أو فراش ابنته، ولكنه ملزم بأن يجود بروحه نفسها، لشراء ما ألحقه به من آثام: تلك الآثام التي لم يلحقها هذا الغازي الأبيض بأمّة السواد، بقدر ما ألحقها بأمّة اللثام، كل ما في الأمر أن هذه الأمّة الأخيرة من الزهد، في حطام الدنيا، بحيث ترفض قيمها الأخلاقية أن تطالب بثأر، وكل ما تريده، بعد كل البلايا التي لحقت بها، أن يدعها هذا العالم الجاحد تحيا في صحرائها بسلام!